القدس المحتلة - قدس الإخبارية : “الأمر الذي لا يروق لي هو أن أتمنى لك عامًا سعيدًا ثم ألحقها بـ”الله يرحمك” هكذا كتب صبيح ابن الشهيد الفلسطيني مصباح أبو صبيح في ذكرى ميلاد والده.
في العشرين من شهر كانون أول/ ديسمبر عام 1976 وُلد الحاج مصباح بعد ثمانية إناث (توفّيت إحداهنّ صغيرة)، ليكون ترتيبه الأول من بين الذكور والثامن بعد الإناث.
وكما أنّ قدومه إلى الحياة أثار ضجّة جميلة نشرت الفرحة بين أفراد العائلة والأقرباء والأصدقاء، كان لوفاته أيضًا وقعٌ صاعقٌ صادم لم يتخيّله أحد في مدينة القدس المحتلة.
العشاءُ الأخير
في الثامن من تشرين أول/ أكتوبر عام 2016 قرّر الحاج مصباح أبو صبيح أن يجمع عائلته كاملة من أبناء وأحفاد في بيت والده ببلدة الرام شمالي المدينة، وكأنها ليلة وداع قبل تسليم نفسه لسجن “الرملة”.
كان من المفترض أن يقوم بتسليم نفسه لقضاء أربعة شهور بتهمة الاعتداء على شرطي إسرائيلي في البلدة القديمة، وكان في حينها مُبعدًا عن مدينة القدس لمدة شهر، إلى جانب منعه من السفر حتى نهاية العام 2016 بأمر من الاحتلال.
انتظروه عدّة ساعات ولم يتناول معهم وجبة العشاء، وبعد أن حضر وجدهم ينتظرونه فأبلغهم عمّا فعله الاحتلال به قرب مستوطنة “معاليه أدوميم” (شرقًا) واحتجازه هناك لمدة تزيد عن الثلاث ساعات.
وفقاً لإحدى شقيقاته، قال أبو صبيح لهم: “كنت أتمنى لو تناولت العشاء معكم، لكنّي سعيد بوجودكم هنا.. لا أريدكم أن تعودوا لمنازلكم.. عليكم أن تناموا الليلة مع والديّ”.
امتلأت تلك الجلسة بضحكات وابتسامات وأحاديث من هنا وهناك، وجلس أبو صبيح في حضن والدته، تُربت على كتفه وجبينه وتداعب لحيته وتقول وهي تضحك: “لحيتك بتلمع كتير، شكلك حطيت عليها زيت؟”.
لم تكن والدة الشهيد مصباح تعلم أن هذا الحضن سيكون الأخير والدافئ، ففي اليوم التالي كان يحضّر مفاجأة هزّت أركان الاحتلال وصُعق أهل المدينة بها.
ذهب ليسلّم نفسه فعاد شهيدًا
ودّع الأهل والأحبّة، وغادر لا إلى السجن بل إلى الرفيق الأعلى، حمل سلاحه ونفّذ عمليتا إطلاق نار من داخل مركبته التي كان يستقلها قرب “القيادة القُطرية” التابعة للاحتلال في حي الشيخ جراح في القدس (9 تشرين أول 2016)، لاحقته وحدة “اليسام” الخاصة في محيط المكان، وأطلقت عيارات نارية باتجاهه ما أدى إلى إصابته واستشهاده.
في تلك العملية قُتل مستوطن وجندي من وحدة “اليسام”، إلى جانب تسجيل ست إصابات ما بين طفيفة أو “هلع”.
ما إن عُرفت هوية منفّذ العملية، حتى صرخت القدس وأهلها وجعًا وحزنًا على أسدها، فذلك لقبه، بَكَتْه المدينة وأطفالها وشبّانها الذين يعرفونه عن ظهر قلب.
وصيتّه كانت القدس والأقصى، وآخر ما كتبه على صفحته عبر “فيسبوك”: “الأقصى أمانة في أعناقكم فلا تتركوه وحيدًا".
الشهيدُ الحنون
في حديثِ “قدس الإخبارية” مع شقيقة الشهيد “ختام” قالت: إنها لم تعرف رجلاً مثل شقيقها، فهو الأخ والرفيق والأب والسّند وكلّ شيء بالنسبة لهم، رغم أنهنّ يكبرنه سنّاً.
وتُضيف أن مصباح كان يُعامل الجميع بمودّة واحترام ويُساعد دون مقابل، لذلك حظي بحب كل من حوله من الناس في القدس.
وتستذكر حينما هدم الاحتلال منزلها في قرية الطور (شرق القدس) قبل سنوات من وفاته، كيف احترق قلبه على البيت وكأنه منزله، حيث احتضنها وقبّلها وتمتم لها بكلمات تُقوّيها.
“أتذكّر كل ما يتعلّق بحبيبي -هكذا كانت تسمّيه طيلة فترة حديثنا معها- الليلة الأخيرة معه في منزل والدي، نور وجهه، الصور ومقاطع الفيديو التي التقطناها معه، احتضان أمي له طيلة الوقت”، تقول ختام.
في ذكرى ميلاده .. كتب نجله صبيح على صفحته عبر “فيسبوك”: “الأمر الذي لا يروق لي هو أن أتمنى لك عاماً سعيداً ثم ألحقها بـ”الله يرحمك”، ثم أتذكر كلماتك، كل شيء له بداية، ولكل شيء نهاية إمّا جميلة فنقول “رحمه الله” وإما أن لا يتذكرك أحد (..) كل عام وأنت بالجنة أسعد”.
الشهيد مصباح أبو صبيح ما زال جثمانه محتجزاً لكن العائلة لا تعرف أين، هل هو في الثلاجات مع باقي الشهداء المحتجزين منذ عام 2015 أم دُفن في مقابر الأرقام؟.